| ||||||||||||||||||
تنقية السنة النبوية من
الشوائب: تأليف: عيسى عبدالرحمن السركال
الشارقة، الامارات العربية المتحدة تاريخ النشر: 26 ابريل 2023
"وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا أصل القصة إشاعة في رواية مرسلة:
19764 - أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن
المسيب وعروة بن الزبير
أن يهود بني زُريق سحروا رسول الله (ﷺ) فجعلوه في
بئر، حتى كاد النبي (ﷺ)
الحديث في الاعلى صحيح الاسناد على شرط الشيخين، وهو من رواية عبد الرزاق بن همام، عن معمر بن راشد، وكلاهما من رجال البخاري ومسلم، ولكنه حديث مُرسل، والمرسل ضعيف، لا تقوم به حجة، حتى وان صح سندا، وإن اختلفت الرواية بين الوصل والارسال، فالحكم لمن أرسل، على رأي النسائي وغيره، كما رأينا في المقال الاول. الارسال جرح، والجرح مقدم على التعديل، وبموجب هذه القاعدة، تسقط الرواية الاخرى المتصلة المنسوبة الى عروة. الزُهْري يروي الحديث عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعلى هذا نفترض انها رواية مشتركة، الشخصين لديهم نفس المعلومة، والظاهر انهم ينقلون كلام الناس من الاشاعات التي كانت رائجة في زمنهم، ثم ألحق الزهري كلامهم ببلاغ عن مجهول، ((فيما بلغنا))، كالعادة، بهارات اضافية، ولحسن الحظ ان العبارة لم تسقط من هذا الحديث بالخطأ، أو بفعل زنديق، كما سقطت من حديث رضاع الكبير. لو ان الزهري كان يعرف عن سحر النبي اكثر من ما جاء في هذا الحديث لذكره.. هذا الرجل يقول كل ما لديه دون ادنى تحفظ، بما فيها بلاغات عن ضعفاء ومجروحين، وقد رأينا ذلك في المقال الاول، ولكن كل ما كان متداولا في عصره عن موضوع السحر هو فقط ما تراه في هذا الحديث المرسل، فتأمل كيف تطورت الرواية وتضخمت في أزمنة متأخرة! كتب ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث البخاري عن سحر النبي الفقرة التالية:
وعنده (أي عند الرزاق) في مرسل سعيد بن المسيب: حتى
كاد يُنكر بصره.
(فتح الباري شرح صحيح البخاري | كتاب الطب | باب السحر) ابن حجر يقصد الحديث في الاعلى في قوله "مرسل سعيد بن المسيب"، ولكن العبارة في
الحديث في الاعلى هي هكذا: "حتى كاد الظاهر ان كلمة " يُنكر بصره: يرى الشيئ الظاهر ان مؤلف القصة استوحى فكرة "ينكر بصره" من قصة موسى وسحرة فرعون: "فَإِذَا
حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ ايام زمان عندما كان بحوزة البخاري 600 ألف حديث، وعندما كان احمد بن حنبل يحفظ مليون حديث، في تلك الايام ربما كانت توجد عشرات الاحاديث عن سحر النبي، كل حديث فيه قصة تختلف عن الاخرى، ولكن مشتركة في بعض الجوانب.. القصة التالية من مُصنف عبدالرزاق أيضا:
19765 أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عطاء الخراساني ، عن يحيى بن
يعمر ، قال:
"حُبس رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) عن عائشة سنة، فبينا هو
نائم أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما
لصاحبه: سحر محمد؟ فقال الآخر: أجل، وسحره في بئر أبي فلان، فلما أصبح
النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بذلك السحر فأخرج من تلك البئر" (مصنف
عبد الرزاق)
القصة في الاقتباس اعلاه يرويها يحيى بن يعمر، وهي قصة مرسلة من غير وسيط بينه وبين عائشة.. القصة تعطينا فكرة عن نوع الكلام الذي كان متداولا في تلك الايام. الرابط المشترك بين هذه القصة وقصة حديث الزهري، هو ان الرسول أمر بإخراج السحر من البئر، والباقي كله كلام جديد، وهذا يعني ان القصة تطورت بعض الشيئ. مرت القصة بتقلبات وتطورات واسقرت اخيرا في صحيح البخاري كالتالي:
حدثنا إبراهيم بن منذر، حدثنا أنس بن عياض، عن
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد
(البخاري، الرواية 1)، (البخاري، الرواية 2) (البخاري، الرواية 3)، (صحيح مسلم) لاحظ قوله انه كان يُخيل اليه انه " اضافوا اسم عائشة في الاسناد.. الحديث في البخاري أطول من هذا الجزء المعروض، وفيه اضافات وتفاصيل أخرى لم يكن يعلم بها عروة في الزمن الذي ذكر فيه الاشاعة للزهري. الاضافات الجديدة فيها ان النبي ذهب الى مزرعة نخيل، "نخلها كرؤوس الشياطين"، وفيها بئر، "كأن ماءها نقع الحناء"، أوصاف عجيبة وغريبة لن تجدها حتى في مغامرات السندباد، وفي رواية أخرى: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن"، وفي المنام أتاه رجلان، قال احدهما للاخر، "ما بال الرجل؟"، فقال الاخر: "مطبوب"، ومن طبه: "لُبيد بن الاعصم"، وفي ماذا؟ "في مشط ومشاطه" -- تخاريف وحكايات عواجيز. في رواية سفيان ابن عيينة، وهي في البخاري ايضا، وتعليقا على العبارة: "حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن"، قال سفيان: "وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا". يقول البعض ان سحر الرسول لم يكن الا كالسحر الذي الذي طرأ على النبي موسى، ها هو ابن عيينة يقول انه أشد انواع السحر.. لو
انهم تركوا الاشاعة كما كانت في رواية الزهري، "حتى كاد يُنكر بصره"، لكان
لهم الحق ان يقولوا انه كسحر موسى، " عندما كان هشام ابن عروة في المدينة، كان محدث ثقة ثبت، ولكن بعد ان ذهب الى العراق، استهبلوه العراقيين، ودسوا عليه سمومهم، فصار يحدث عن ابيه بما سمعه من غير ابيه:
"قال يعقوب بن شيبة: هشام ثبت، لم يُنكر عليه إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه
انبسط في الرواية، وأرسل عن أبيه أشياء، مما كان قد سمعه من غير
أبيه عن أبيه."
"وقال عبد الرحمن بن خراش: بلغني أن مالكا نقم على
هشام بن عروة حديثه لأهل العراق، وكان لا يرضاه، ثم قال: قدم الكوفة ثلاث مرات،
قدمة كان يقول فيها: حدثني أبي قال: سمعت عائشة. والثانية، فكان يقول: أخبرني
أبي عن عائشة. وقدم الثالثة فكان يقول: أبي عن عائشة، يعني يرسل عن أبيه." العراقيين أفقدوه صوابه، يلقنونه روايات ينسبونها الى ابيه، فيرويها عن ابيه وكأنه سمعها منه مباشرة.. هؤلاء طبعا زنادقة متنكرين على هيئة محدثين، وقد رأينا في مقال سابق كيف كانوا يُزورون الاحاديث ويلفقونها على أهل الحديث. وهكذا نجد أن حديث السحر في البخاري وغيره لا يصح، وما هو إلا تلفيق في زمن متأخر.
|