حقائق خفية في القرآن والتاريخ

Script:DoSizeHdr

Start of Body

تنقية السنة النبوية من الشوائب:
2. رضاع الكبير في صحيح مسلم

تأليف: عيسى عبدالرحمن السركال
الشارقة، الامارات العربية المتحدة
تاريخ النشر: 26 ابريل 2023
آخر تحديث: 4 يوليو 2023

Script:PrintURL

قائمة المقالات: تنقية السنة النبوية من الشوائب
المقال السابق: رضاع الكبير في صحيح البخاري
المقال الحالي: رضاع الكبير في صحيح مسلم
المقال التالي: حديث السحر

رابط المقال على صفحة فيسبوك للتعليقات

مُقدمــــــــــة

استعرضنا في المقال السابق أحاديث رضاع الكبير في صحيح البخاري، ورأينا انها مبنية على اشاعة ذكرها مالك في حديث مُرسل، ثم تطورت بعد فترة من الزمن لتصبح أحاديث صحيحة يرويها البخاري.. أي مؤرخ تاريخي من المؤرخين المعاصرين، يحترم مهنته ويخشى على سمعته، لن يعتمد الروايات المتأخره ويهمل الاصل، ولكن معايير الزمن القديم في اعتماد الرواية لم تكن على درجة عالية من التحري والتدقيق.

رضاع الكبير مسألة فقهية، والامام مالك فقيه، ومن أهل الحديث، ومع ذلك لم يروي فيها سوى حديثٍ واحدٍ مُرسل مُنقطع!! التفسير المنطقي العقلاني هو ان الاحاديث التي ذكرتها الكتب المتأخرة لم تكن موجودة في زمن مالك، أو انها لم يصح منها شيئ عنده. وإلا كيف له ان يروي الحديث المرسل المنقطع، ويترك الصحيح المُسند؟ لا تفسير لهذا التصرف العجيب الغريب إلا ان هذا المنقطع كان هو أفضل الموجود في زمن مالك.

الروايات الشفهية تتطور مع الزمن.. انظر مثلا الى قصص ألف ليلة وليلة: بدأت في الهند كقصص شفهية تحكيها الامهات لاطفالهن قبل المنام، وكانت قصص قصيرة معدودة.. ثم انتقلت الى فارس، وكقصص شفهية ايضا، ولكن زاد عددها.. وبعد الفتح الاسلامي، دخلت الى ديار الاسلام، فأُضيفت عليها حكايات جديدة، وأخذت الطابع العربي الاسلامي، واستقرت اخيرا في العصر العباسي في كتاب من اربع مجلدات. وبعد أن تم تدوينها في كتاب، توقفت الاضافات.. وهكذا كان شأن الاحاديث المنسوبة الى النبي، كانت قليلة معدودة، فتكاثرت مع الزمن.

يقال ان الامام مالك استخرج كتابه من مائة ألف حديث، ويقال ان الامام البخاري استخرج كتابه من ستمائة ألف حديث (لاحظ ان عدد الاحاديث زاد في زمن البخاري). ولو ظل الحديث من غير تدوين، لربما وصلنا الان عشرة ملايين حديث.

لا تغتر بكثرة الاحاديث في أي موضوع، الزنادقة واصحاب الاهواء والمصلحة يزيدون من عدد الاحاديث لإيهام الناس ان الامر حقيقي، عملا بمدأ: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس. افترض مثلا ان يأتيك خبر من شخص واحد، فالاحتمال ان تشك في صحته، ولكن اذا واحد ثاني سمع نفس الخبر واعجبته الفكرة، فقام ووضع له مصدرا جديدا وروج له، واحد ثالث عمل نفس الشي، وغيره كذلك، فربما تصدق الخبر الان، ستقول لا يمكن لهذه المصادر ان تخطئ كلها، ولكن الحقيقة هي ان الخبر كله كذب في كذب، ويمكنك معرفة ذلك بإعادة الخبر الى اصله، ثم تقوم بتتبعه من نقطة البداية لترى كيف بدأ وكيف تطور وانتهى، وهذا بالضبط ما نقوم بعمله في هذه المقالات عن تنقية السنة النبوية من الكذب والتلفيق، نُعيد الروايات الى أصلها، ثم نحقق في الاصل.

محال ان يأتي المتأخر بخبر لم يعلم به المتقدم، وبالذات اذا كانت الرواية شفهية تنقلها الالسن وتنتشر بين الناس.. جرت العادة ان يقوم الناس بنشر الخبر عندما يكون طري طازج، جديد، فتجده على كل لسان، ولكن إذا وجدت خبرا انتشر في أوقات متأخرة، ولم تجد له ذكر في وقت حدوثه، فاعلم انه اشاعة مستحدثة، وعلى هذا نقولها مرة أخرى، أفضل الموجود في رضاع الكبير هو الاشاعة التي ذكرها مالك في حديثه المرسل، وكل الاحاديث سواه لا يصح منها شيئ، لذا فإنه يمكننا ان نرد كل الاحاديث في رضاع الكبير، الاحاديث التي ذكرتها الكتب المتأخرة، نردها بالحديث المُرسل الذي رواه مالك، ولكن، وبما ان صحيح مسلم يُعتبر حجة عند المسلمين السنة، سوف نستعرض احاديث مسلم لنرى انه لا يوجد فيها حديثٍ واحد يخلو من علة قادحة.. وفي المقال ايضا معلومات عن علوم الحديث سنستفيد منها في هذا المقال ومقالات قادمة ان شاء الله.

 

معلومات عن علوم الحديث

قال شعبة: "إنما يُعلمُ صحة الحديث بصحة الإسناد" (أهمية الاسناد)
وقال يحيى بن سعيد: "لا تنظروا إلى الحديث ولكن انظروا إلى الإسناد فإن صح الإسناد. وإلا فلا تغتر بالحديث إذا لم يصح الإسناد"
(سير أعلام النبلاء | يحيى بن سعيد القطان)

المشكلة الان هي ان الروايات المتعارضة في كثير من الاحيان لها أسانيد صحيحة، فكيف الحل؟ ستقول نأخذ منها ما يتفق مع القران.. هذا هو الرأي السديد والقول السليم، ولكنهم لا يعتمدون على القران نهائيا.

قال عبد الرحمن بن مهدي: "معرفة الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة"
قال ابن نُمير: "صدق، لو قلت من أين؟ لم يكن له جواب"
ويقول ابن مهدي أيضا: "إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة"
(كتاب التعريف بعلم العلل | الفصل الرابع | أهمية علم علل الحديث)

الاسناد ليس كلمة فصل بين الصحيح والضعيف، وعملية ترجيح حديث على آخر تحتاج الى تخمين وتكهنات وضربٌ بالغيب، وعلى رأي ابن مهدي: "إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة"، ولو قلتَ على أي اساس صححت هذا الحديث وضعفت ذاك؟ لم يكن له جواب!

"إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة" -- يعني نحن الجهال وهو ابو العريف!! نورنا بعلمك الله ينور عليك.. المشكلة ان هذا العلم لا يقوم على اسس وقواعد، وإنما على "كهانة"، سحر وشعوذة وقراءة نجوم!

يقول "معرفة الحديث إلهام" -- القول بالالهام ليس إلا مزاج، ما اتفق مع اهوائهم اعتمدوه، وما خالفها ضعفوه، وخير مثال على ذلك حديث "لا نكاح إلا بولي"، لم تصح فيه رواية واحدة، فصححوه واعتمدوه، لأنه يتفق مع عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية. سنعود الى هذا الحديث لاحقا.

الاحاديث روايات تاريخية ولا فرق، لأنهم اصلا استبعدوا القران كحاكم عليها، ولا يمكن أن يقال ان القران يرجح هذه الرواية على تلك، فإذا افترضنا ان عبدالرحمن بن مهدي عنده إلهام، والبخاري عند إلهام، وغيره كذلك، فما المانع من الافتراض ان المؤرخين ايضا عندهم إلهام؟ ولكن المؤرخون لا يزعمون ذلك، اعتمدوا قواعد واستخدموها، وإن أقرت هذه القواعد نتيجة اعتمدوها.

أضف الى ذلك هو اننا لم نجد هذا الالهام في أحاديثهم. في المقال السابق مثلا رأينا البخاري يُخرج احاديث شاذة ومُنكرة، وفي هذا المقال سنرى لاحقا انه توهم في حديثين أخرجهما بالخطأ من رواية عطاء الخرساني ظنا منه أنه عطاء بن ابي رباح، فأين هو هذا الالهام المزعوم؟

الاهواء والميول الشخصية كانت هي العامل الحاسم في ترجيح حديث على غيره، وليس الالهام.

الزنادقة أيضا لعبوا دورا كبيرا في تلفيق الاحاديث لإفساد دين الاسلام. وعن طريق المدلسين والدس في كتب المحدثين، أدخل الزنادقة احاديثهم في الدين.

 

التدليس في سند الحديث

التدليس انواع، اشهرها تدليس الاسناد، "وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهماً أنه سمعه منه‏.‏ أو‏:‏ عمن عاصره ولم يلقه، موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه‏.‏ ثم قد يكون بينهما واحد، وقد يكون أكثر [يعني أكثر من وسيط]‏.‏" (مقدمة ابن الصلاح - تدليس الاسناد)

المدلس يُسقط اسم الوسيط من سند الحديث لعدم شهرته مثلا، أو ليقلل من عدة الافراد في الاسناد، أو ان الذي يُسقطه متهم بالكذب أو في العقيدة، ولكنه في نظر المدلس هو شخص صالح ثقة، فيسقطه من الاسناد حتى يقبلوا حديثه.. فمثلا عندما تقرأ في سند الحديث: أخبرنا زيد عن عبيد، هذا التعبير لا يعني بالضرورة ان زيد سمع الحديث من عبيد، فربما هو سمع الحديث من سالم، وعليه يجب ان يكون الاسناد كالتالي: أخبرنا زيد عن سالم عن عبيد، ولكن المدلس اسقط سالم من القائمة، ومعرفة الساقط من سند الحديث تصبح ضربا من المستحيل، لذا فإن الاسناد لا يعطيك صورة متكاملة عن كل رجال الحديث.

10 - (حبيب بن أبي ثابت) قال ابن حبان كان مُدلسا، وروى أبوبكر بن عياش عن الأعمش قال: قال لي حبيب بن أبي ثابت، لو أن رجلا حدثني عنك، ما باليت أن أرويه عنك. توفي سنة 119 وقيل غير ذلك.
(كتاب التبيين لأسماء المدلسين | سبط ابن العجمي الشافعي | تحقيق يحيى شفيق | ص. 19)

حبيب بن أبي ثابت مدلس معروف ويجاهر بتدليسه.. يقول الاعمش ان حبيب قال له لو ان رجلا حدثه عنه [أي عن الاعمش]، لن يبالي في أسقاط اسم الرجل من سند الحديث، ثم يروي الحديث عن الاعمش وكأنه سمعه منه مباشرة!

يقول ابن حجر عن حبيب بن ابي ثابت:

[69] "حبيب بن أبي ثابت الكوفي، تابعي مشهور يكثر التدليس، وصفه بذلك بن خزيمة والدارقطني وغيرهما، ونقل أبو بكر بن عياش عن الأعمش عنه أنه كان يقول: لو أن رجلا حدثني عنك، ما باليت ان رويته عنك، يعني وأسقطته من الوسط" (طبقات المدلسين)

الرجل الذي يُسقطه حبيب من سند الحديث يمكن ان يكون زنديق أو صاحب هوى، وان الحديث كله ملفق لا اساس له، أو أن الحديث صحيح ولكن طرأ عليه تغيير. وبما ان الشخص المشبوه تم اسقاطه من الاسناد، فالاسناد يبدو صحيح لا غبار عليه.

الاعمش يُخبر عن تدليس حبيب.. والاعمش بنفسه مدلس.

"[55] ع سليمان بن مهران الأعمش محدث الكوفة وقارؤها وكان يدلس، وصفه بذلك الكرابيسي والنسائي والدارقطني وغيرهم" (طبقات المدلسين)

التدليس في سند الحديث مشروع، ولكنه مكروه.. السبب في قبول روايات المدلسين هو ان الغالبية العظمى من الاحاديث هي من روايات المدلسين.

المشكلة الاخرى في التدليس هي ان الرواية تبدو متعددة الطرق.. تعدد طرق الرواية يؤخذ في الاعتبار عند ترجيح حديث على غيره. فإذا تساوت صحة الاسانيد، واتت رواية بأربع طرق مثلا، بينما الرواية الاخرى بطريق واحد فقط، يُخيلُ لمخرج الرواية ان رواية الاربعة أصح من الواحد، ولكن ربما رواية الاربعة هي في الحقيقة رواية واحد، وكل مُدلس ينَقلُ عن زميله ويُسقط اسمه من الاسناد. والطامة الكبرى في ان تكون الرواية التي تبدو متعددة الطُرق هي في الحقيقة حديثٌ مغشوش مُتلاعب في مضمونه.

تعدد طُرق الرواية لا يعني تعدد الاحاديث في نفس الموضوع، وانما تعدد عدد الرواة عن المصدر، فمثلا حديث الزهري في رضاع الكبير، وقد تمت مناقشته في المقال السابق، رواه مالك كحديث مُرسل، بينما رواه آخرون، وعن الزهري ايضا، بوجود عائشة في سند الحديث، فقدم البخاري رواية الاكثر على رواية مالك، بالرغم من ان رواية مالك هي الاقدم.

حبيب بن ابي ثابت من رجال البخاري ومسلم.

حبيب يجاهر بتدليسه، والكثير منهم يُدلسُ في الخفاء، ولا يَعلم بتدليسه أحد، إلا اذا شاءت الاقدار بطريقة غير متوقعة ان ينكشف المستور.

يقول شعبة بن الحجاج، وهو واحد من أكبر رواة الحديث في عصره: "ما رأيت أحدا من أصحاب الحديث الا يدلس، الا بن عون وعمرو بن مرة" (طبقات المدلسين - خاتمة الكتاب).

روايات المدلسين في صحيح البخاري:

مجموع روايات المدلسين في الرسم اعلاه 6272 ، من أصل 7275 مجموع احاديث البخاري.

المخطط في الصورة اعلاه وضع للمدلسين مراتب، وتعريفها هو نفس التعريف الذي وضعه ابن حجر العسقلاني في كتاب طبقات المدلسين.. وهي كالتالي:

  • الأولى: من لم يوصف بذلك الا نادرا كيحيى بن سعيد الأنصاري.
  • الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لامامته وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري أو كان لا يدلس الا عن ثقة كإبن عيينة.
  • الثالثة: من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقا ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي.
  • الرابعة: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد.
(طبقات المدلسين - ابن حجر العسقلاني - مقدمة الكتاب)

يقول ابن حجر ان المدلسين من المرتبة الاولى والثانية تدليسهم قليل. مسألة ان تدليسهم قليل هو يقصد به التدليس المُكتشف، وإلا فإنهم لم يضعوهم تحت المراقبة ليتأكدوا من نسبة تدليسهم. وافترض مثلا اني دلست عليك مرة واحدة. مرة واحدة فقط لا غير. فهل ستثق بي بعد ذلك؟ هذا كمن يقول: صحيح اني كذبت عليك في المرة السابقة، ولكن هذه المرة أقول الصدق. فهل ستصدقه؟

ثم يقول عن الطبقة الثانية: "أو كان لا يدلس الا عن ثقة كإبن عيينة" -- الثقة مصطلح نسبي، ومن هو ثقة عند مُحدث، فربما ضعيف عند غيره.. ابن جريج مثلا ثقة عند سفيان ابن عيينة، ولكن عند مالك هو صفر على الشمال، وقال عنه: حاطب ليل.. فهل يجب علينا ان نقبل تدليس ابن عيينة حتى وان جاء بأحاديثه من حاطب ليل؟

حاطب الليل هو الذي يحطب في الظلام، لا يدري ما تلتقط يده.. يُستخدم هذا التعبير عند اهل الحديث لوصف من يأخذ الحديث عن أي أحد.

"وقد كان سفيان [ابن عيينة] مشهورا بالتدليس، عمد إلى أحاديث رفعت إليه من حديث الزهري فيحذف اسم من حدثه ويدلسها إلا أنه لا يدلس إلا عن ثقة" (سير أعلام النبلاء - سفيان ابن عيينة)

ابن عيينة مشهور بالتدليس، ولكن لا يدلس الا عن ثقة!

اذا كل مُحدث سيسقط "الثقة" عنده، فما هي الفائدة من الاسناد؟

وافترض مثلا أن أُحدّثك كالتالي: أخبرني (صديق أثقُ به) عن شعبة عن قتادة عن انس... الخ.

ستقول من هو هذا الصديق؟ فربما نحن نعرف عنه أمور انت لا تعرفها، اخبرنا من يكون؟ وإلا لن نقبل حديثك. ولكن اذا اسقطته من الاسناد بدون ان أخبرك، فسوف تظن اني اخذت الحديث عن شعبة مباشرة، وبهذه الطريقة انا أكون قد اعطيتك بضاعة مغشوشة.

القضية هي ان الاسناد الصحيح لا يضمن صحة الحديث. الرجال الذين يُسقطهم المدلسين، الذين هم يفترضون انهم "ثقة"، ربما ليسوا "ثقة" عند غيرهم. حلقات السند المفقودة تجعل كل ذي لب يشك في اتصال الاسناد الى منتهاه.

المحدثين المشهورين، وبسبب كثرة احاديثهم، تم اكتشافهم، وهم الذين كتب ابن حجر اسمائهم في طبقات المدلسين. ولكن المحدثين الغير مشهورين، الذين احاديثهم قليلة، ولأن العينة من الاحاديث صغيرة، فمن الصعب معرفتهم.

 

صيغة التحديث

تنقسم صيغ التحديث الى نوعين، بعضها يُسمى التصريح بالسماع، والاخرى "تحتمل" السماع.

نوع التصريح بالسماع كالتالي: أخبرنا، حدثنا، سمعنا، وما شابه ذلك مما يدل على سماع الحديث، مثال: (حدثنا زيد أخبرنا عبيد)، وعلى هذا يُفترض ان زيد سمع الحديث من عبيد.

النوع الثاني هو الذي "يحتمل" السماع، فقط احتمال، وهو كالتالي: عن، قال، أن.. ويُسمى الحديث الذي في سنده "عن"، ولو مرة واحدة فقط، بالحديث المعنعن، وهو ان يقول فيه الراوي (حدثنا زيد عن عبيد). هذه الصيغة لا تدل على ان زيد سمع الحديث من عبيد، فربما وصله الحديث عن طريق وسيط، لذا فهي صيغة "تحتمل" السماع، يمكن سمع، أو يمكن لا.

البخاري يشترط المعاصرة والمقابلة ليقبل عنعنة من ثبت تدليسه. المقابلة التي يشترطها البخاري هي مرة واحدة فقط.

مسلم لا يشترط ثبوت اللقاء.. المعاصرة فقط.

وبالرغم من ان معايير البخاري فضفاضة جدا، وتعميم السماع على كل الاحاديث المعنعنة من مقابلة واحدة مسألة لا يقبلها عقل ولا منطق، إلا ان بعض المدلسين يتجاوزون العنعنة الى صيغة حدثنا وأخبرنا، وهذا يُسمى تدليس الصيغة:

تَدْلِيْسُ الصِّيْغَة / صِيَغُ الأَدَاء
أن يستخدم الراوي بعض صيغ الأداء على سبيل المجاز لا الحقيقة، موهماً أنه سمع الحديث من الشيخ، مع أنه لم يسمعه منه مباشرة، أو تحمَّله منه بطريق الإِجَازَة، أو الْمُنَاوَلَة، أو الْمُكَاتَبَة، أو الوِجَادَة . ومثال الأول أن يقول الراوي : "حدثنا فلانوينوي حَدَّث قومَنا، أو أهلَ بلدنا . ومثال الثاني : أن يقول الراوي "أخبرنا " في رواية حديث تحمَّله بطريق الإِجَازَة، يعني أخبرنا عن طريق الإِجَازَة . ولا يُعد الثاني من باب التدليس عند كثير من المحدِّثين.
(معجم المصطلحات الشرعية)

صيغة الجمع تُطلق على الفرد.. وافترض مثلا ان يقول مدير شركة أنّ فلانا اتصل بنا واخبرنا، فهو ربما يقصد ان فلانا اتصل بالسكرير واخبر السكرتير، ولم يُكلمه هو شخصيا، ولكن لأنه يثق في السكرتير، فيتكلم بلسانه.. راوي الحديث المدلس يثق بمن يوصل له الحديث، فيقول له مثلا ان الشيخ الفلاني حدّث صاحبنا فلان، فيقوم المدلس ويتكلم نيابة عن صاحبهم بصيغة "حدثنا". وعلى هذا نرى انه لا فرق عند المدلس بين العنعنة وبين التصريح بالسماع بصيغة الجمع كحدثنا واخبرنا.

عندما يقوم المحدث بإلقاء الحديث، يُمكن للسامع ان يقلب الصيغة من "حدثنا" أو "أخبرنا" أو غيرها، الى "عن"، ولكن "عن" لا تُقلب الى أي صيغة أخرى (أو ان هذا هو المفروض).. الالفاظ الظاهرة في سند الحديث لا تعكس دائما الالفاظ التي نطق بها المحدث.

 

سفيان بن عيينة يُدلس بصيغة "حدثنا"

الافتراض السائد ان المدلس اذا صرح بالسماع، كقوله حدثنا وأخبرنا، فهو لا يُدلس.. المدلس يعرف هذه القاعدة، فهل نتوقع منه ان يلتزم بها؟ هذا كمن يفترض من المدلس ان يقول: اذا سمعتوني أقول (حدثنا وأخبرنا)، فأنا صادق في سماعي، وإن لم أقل ذلك فأنا أكذب.. هل هذا كلام؟

اكتشاف التدليس، أو أي علة أخرى من علل الحديث، حالة استثنائية، ولكن اذا سارت الامور على ما يرام، وكل شيئ بدا وكأنه طبيعي، فلا سبيل لمعرفة خائنة الاعين وما تُخفي الصدور.

سفيان بن عيينة دلس في حديث خطأ، وتم ضبطه.. نفس هذا الحديث الذي ضُبطَ فيه تحدثَ به في جلسة تحديث بصيغة "حدثنا".

252 - حدثنا الحميدي قال: ثنا سفيان قال: ثنا الزهري، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما نفعنا مالٌ قط، ما نفعنا مال أبي بكر»
قال الحميدي: فقيل لسفيان فإن معمرا يقوله عن سعيد فقال: ما سمعنا من الزهري إلا عن عروة عن عائشة.
(مسند الحميدي)

معنى الحديث انه لم ينفع المسلمين مالٌ، مثلما نفعهم مال ابوبكر.

يقول الحميدي، راوي الحديث، ان احد الحضور قال لسفيان ابن عيينة، ان معمر بن راشد يقول الحديث عن طريق الزهري عن سعيد ابن المسيب.. ابن عيينة لم يتراجع، واصر على ان الحديث عن عروة عن عائشة.

لاحظ انه يقولها بصيغة الجمع: ما سمعنا من الزهري.. وفي بداية الحديث يقول حدثنا الزهري (ثنا اختصار حدثنا).

عندما يقول (حدثنا)، (سمعنا)، هو لا يقصد نفسه، وانما جماعتنا واصحابنا، ولكن الحضور يظنون انه هو الذي سمع الزهري، وهذا هو تدليس الصيغة الذي سبق الحديث عنه.

شاءت الاقدار لسفيان ان يُحدّث بهذا الحديث في حضور يحيى بن معين، أحد كبار نُقاد الحديث، وصديق أحمد بن حنبل.. سفيان قال الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة، فاستفهموه مرة أخرى: من اخبرك بهذا، فقال وائل.. في المرة السابقة قال (ما سمعنا من الزهري إلا عن عروة عن عائشة)، والان تراجع خطوة واعترف بإسم الوسيط.

يحيى بن معين اخبر "ابن" احمد بن حنبل، والابن اخبر ابوه.. الاب استنكر الحديث وقال عنه خطأ، أي ان لفظ الحديث خطأ. الذي نقل الحديث لسفيان التبس عليه متن الحديث بحديث ثاني منسوب الى ابوهريرة. سفيان اسقط الوسيط ورفع الحديث الى الزهري بصيغة "حدثنا" الزهري، كما هو في رواية الحميدي.. ولكن في رواية يحيى ابن معين تراجع عن "حدثنا" الى "عن" الزهري، واخبر ان الذي ابلغه الحديث وائل.. التالي اقتباس مُصور:

الحديث المقصود في العبارة (فذكر الحديث) هو الحديث في الاقتباس التالي:

حديث الزهري يختلف في ألفاظه بعض الشيئ، وسنده عن الزهري عن ابن المسيب مرسلا.. ابن عيينة جعله متصلا عن عروة بن الزبير عن عائشة.

تم التطرق الى حديث ابن عيينة في أكثر من كتاب، والاقتباس اعلاه من تاريخ ابن عساكر، وفيه جزء من مناقشة الحديث.

حديث سفيان ابن عيينة قاطعه جميع الكتب الستة وغيرها من كتب السنن، ولم يُخرجه سوى الحميدي في مسنده، ومُجمّع الزوائد من رواية ابو يعلي.

القصد من هذا الكلام كله ليس ان ابن عيينة دلس حديث بالخطأ، ولكن انه دلس بصيغة "حدثنا"، فالمدلس لا اعتبار لصيغة التحديث عنده.

افترض الان ان الحديث الملخبط لم ينكشف، سفيان بن عيينة اسقط الوسيط، وروى الحديث عن الزهري، وهو لم يسمع من الزهري، وانما اخذه من وائل بن داود، ثم وائل حدّث بنفس الحديث. وائل ايضا لم يسمع من الزهري، وانما أخذه من ابنه بكر بن وائل، فقام ابنه وحدّث بنفس الحديث ايضا، فأصبح للحديث الان ثلاثة طرق كلها تؤدي الى الزهري، وعندما نرى تعدد طرق الحديث، سيُخيّل إلينا انه فعلا حديث الزهري، ويشهد عليه ثلاثة رواة، مع ان الواقع هو ان بكر بن وائل خلط حديث في حديث، وقلب اسناد في اسناد، والمحصلة حديث كله غلط في غلط.. النقطة هي ان تعدد طرق الحديث لا يعكس الواقع دائما.

 

سفيان بن عيينة يوصل "المُرسل"

الحديث التالي هو في الاصل مُرسل، فأوصله ابن عيينة بعائشة.

1895 - حدثنا ‏ ‏ابن أبي عمر ‏ ‏حدثنا ‏ ‏سفيان بن عيينة ‏ ‏عن ‏ ‏معمر ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏عن ‏ ‏عروة ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة ‏ ‏قالت:
كان ‏ ‏أحب الشراب إلى رسول الله -‏ ‏صلى الله عليه وسلّم -‏ ‏الحلو البارد -- ‏ ‏قال ‏ ‏أبو عيسى [الترمذي]: ‏ ‏هكذا روى غير واحد عن ‏ ‏ابن عيينة‏، مثل هذا عن ‏ ‏معمر ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏عن ‏ ‏عروة ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة‏، ‏والصحيح ما روي عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏عن النبي ‏- ‏صلى الله عليه وسلّم -‏ ‏مرسلا. (سنن الترمذي)

 

الحديث التالي نسخة من السابق، يرويه الترمذي ايضا، ويقول عنه انه الاصح:

1896 - حدثنا ‏ ‏أحمد بن محمد ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏عبد الله بن المبارك ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏معمر ‏ ‏ويونس ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري:
أن رسول الله ‏- ‏صلى الله عليه وسلّم ‏- ‏سُئل أي الشراب أطيب؟ قال ‏ ‏الحلو البارد ‏ -- ‏قال ‏ ‏أبو عيسى:‏ ‏وهكذا ‏روى‏ ‏عبد الرزاق‏ ‏عن‏ ‏معمر‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏عن النبي -‏ ‏صلى الله عليه وسلّم -‏ ‏مرسلا، ‏ ‏وهذا أصح من حديث‏ ‏ابن عيينة‏ ‏رحمه الله. (سنن الترمذي)

ابن عيينة في الحديث السابق اضاف اسمين بعد الزهري، (عروة وعائشة).

ما تم عرضه في الاعلى هو كله من كلام الترمذي وحكمه على الحديث، ولا تعليق لنا عليه، ولكن فقط لترى ان الاشاعة والكلام المرسل يمكن ان يتحول الى حديث بكل سهولة.

النص في هذا الحديث ليس له اهمية، وما الذي يُعنينا نحن في ان الرسول كان يحب الحلو البارد أو المر الساخن، الناس أذواق، ولكن ان يأتي في الكلام المرسل تشريع أو عقيدة مثلا، ثم يتحول الى حديث متصل بعائشة أو غيرها، فهذه هي الطامة الكبرى.

لا نتهم سفيان ابن عيينة بتعمد ايصال المرسل، والاحتمال انه أخطا، ولكن القضية هي ان ايصال المرسل يمكن ان يقلب الامور احيانا بنسبة 180 درجة. وليس ابن عيينة هو الوحيد الذي يوصل المُرسل.

هذه الاحاديث اذا لم يتم ضبطها بالقران فهي كالغنم السائبة التي لا مقر لها، ومن يتبعها من غير بوصلة فسوف يتيه معها.

 

الوجادة

وهي ان يجد الراوي احاديث في كتاب منسوب لمحدث فيرويها، ويجب عليه التوضيح دون ادنى التباس ان الاحاديث التي يقرأها وجدها في كتاب، ولكن بعض المدلسين يقولون "حدثنا" وهو يقرأ من كتاب مصدره مجهول:

[ 4 ] خ 4 إسحاق بن راشد الجزري كان يطلق حدثنا في الوجادة، فإنه حدّث عن الزهري، فقيل له أين لقيته؟ قال مررت ببيت المقدس فوجدت كتابا. حكى ذلك الحاكم في علوم الحديث عن الإسماعيلي.
(طبقات المدلسين)

تعريف الوجادة:

وهي مصدر لـــــ (وجد يجد)... (وجادة) فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة... مثال الوجادة‏: أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه، ولم يلقه، أو‏ لقيه، ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه، ولا له منه إجازة، ولا نحوها‏. فله أن يقول (وجدت بخط فلان، أو‏ قرأت بخط فلان، أو‏ في كتاب فلان بخطه‏).
(علوم الحديث لابن الصلاح | النوع الرابع والعشرون | القسم الثامن الوجادة‏)

الوجادة بحسب تعريف ابن الصلاح يجب ان يتعرف واجد الكتاب على خط الراوي! وهذه طبعا مسألة نسبية، وقدرة الناس على تمييز الخطوط تختلف من واحد الى آخر، وسوف نرى لاحقا ان شخصا كان يُزور احاديث بنفس خط المحدّث ويدسها في كتابه، والمحدث لا يستطيع تمييز خطه من الخط المزور، فيظن انها احاديثه، فهيهات لمثل هذا ان يتعرف على خط غيره.

وبما ان بعض الرواة من أمثال اسحاق بن راشد يقرأون من كتاب بصيغة "حدثنا"، فما الذي يمنع الزنادقة واصحاب الاهواء من تزوير كتاب من خمسين حديث مثلا، من بينها حديثين ثلاثة تلفيق أو تحريف، ونسبته الى شيخ معروف، ثم دسه على هؤلاء الرواة؟

إسحاق بن راشد الجزري من رجال البخاري، وروى له حديث عن الزهري بصيغة "حدثنا":

4422 - حدثني محمد: حدثنا أحمد بن أبي شعيب: حدثنا موسى بن أعين: حدثنا إسحاق بن راشد: أن الزهري حدثه قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: سمعت أبي كعب بن مالك، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم... (البخاري)

فهل هذا الحديث سمعه اسحاق بن راشد من الزهري مباشرة، أو انه قرأه من الكتاب الذي وجده؟

قال الدارقطني: "تكلموا في سماعه من الزهري"
قال محمد بن يحيى الذهلي: "مضطرب في حديث الزهري"
(ترجمة إسحاق بن راشد)

مضطرب في حديث الزهري يعني انه يقرأ احاديث مُتلاعب في مضمونها.. مُزوّر الكتاب ليس بالغباء ان يعطيك احاديث لا أصل لها، ولكن سيأتي بأحاديث معروفة عن الزهري ويزيد في مفرداتها بحيث تعطي معنى غير المعنى الاصلي، أو تضيف للمعنى الاصلي فكرة جديدة.

هذه حالات تم اكتشافها، وما خفي كان أعظم.

صيغة التحديث لا اعتبار لها عند المدلسين، لا حدثنا ولا اخبرنا ولا سمعت.. اذا ثبت على الراوي التدليس ولو لمرة واحدة فقط، فابحث عن طريقة اخرى للتحقق من حديثه.. أمّا القول انه هنا "صرح" بالسماع، وهناك "عنعن"، فهذا الكلام لا قيمة له عند المدلس.

 

لا نكاح إلا بولي - مثال على تصحيح الحديث على المزاج

استمات الترمذي وغيره في تصحيح هذا الحديث وهو حديث ضعيف.. الحديث في الاصل مُرسل. أورده الترمذي بأربع طرق ترفع الحديث، ولكن كلها طرق ضعيفه، فقبلها الترمذي وصحح الحديث:

[ 1101 ] حدثنا علي بن حجر أخبرنا شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق
وحدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن أبي إسحاق ح
وحدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن أبي إسحاق ح
وحدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا زيد بن حباب عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق
عن أبي بردة عن أبي موسى قال قال رسول الله ﷺ لا نكاح إلا بولي.
(سنن الترمذي | كتاب النكاح)

الحديث في الاعلى من سنن الترمذي، ورقمه في علل الترمذي الكبير (266).

أبو عوانه اعترف انه لم يسمع الحديث من أبي اسحاق، وانما أخذه من إسرائيل، واسرائيل ضعيف.

نفس هذا الحديث يرويه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج عن ابو بردة مرسلا، بدون ابو موسى الاشعري في اسناده. أخرجه عبدالرزاق في المصنف هكذا:

"10174 عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" (مصنف عبدالرزاق)

شعبة وسفيان الثوري من اكبر رواة الحديث وأوثقهم. الترمذي اختار رواية الضعفاء وصحح الحديث. البخاري أيضا، ومع انه لم يُخرج الحديث، إلا انه حكم لمن وصله. وغيره كثيرون فعلوا نفس الشي.

"وسئل البخاري عن حديث: (لا نكاح إلا بولي) المذكور، فحكم لمن وصله، وقال: الزيادة من الثقة مقبوله. فقال البخاري: هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية" (مقدمة ابن الصلاح)

محققو كتاب العلل كتبوا ما يلي:

التحقيق بالكامل من كتاب العلل تجده في هذا الملف، ثلاث صفحات، بصيغة (pdf).

 

حديث آخر مشابه للحديث أعلاه منسوب الى الزهري.. ابن جريج قابل الزهري وسأله عن الحديث فلم يعرفه:

الاقتباس اعلاه من كتاب الفصول في الاصول، كتاب في الفقه الحنفي.. الاحناف يُجيزون نكاح المرأة بغير ولي، وفي هذا الاقتباس يستدل الجصاص على بطلان الحديث بإنكار الزهري.

الحديث في مسند أحمد.. الحديث في سنن أبو داود.

أبو داود أخرج الحديث بطريقين، احدهما عن  سليمان بن موسى، والاخر عن جعفر بن ابي ربيعة. "قال أبو داود: جعفر لم يسمع من الزهري، كتب إليه" (سنن أبو داود) -- سبق ورأينا في المقال السابق ان كُتب الزهري لم تكن موثوقة، وانه كان يُجيز المناولات والكتب بدون مراجعة وتدقيق.. جعفر من سكان مصر، فربما طلب من الزهري عن طريق البريد احاديث، فأرسل الزهري احد مساعديه ليشتري له كتاب جاهز من السوق، تصفحه على السريع، على افتراض انه فتحه اصلا، ثم بعثه الى جعفر، وكان هذا الحديث المغشوش من بين احاديث الكتاب.

سليمان بن موسى من سكان الشام، قال عنه أكثر من واحد: عنده مناكير.. الاحتمال ان الحديث انتجه الوضاعون في الشام ونسبوه للزهري، فتوهم صاحب المناكير انه فعلا حديث الزهري، فرواه عنه. انتشر الحديث ووجد له طريقا الى كتب الزهري التي تباع في السوق، بخط مجهول.

الشخص الذي نقل كلام ابن جريج في انه سأل الزهري عن الحديث ولم يعرفه، اسمه إسماعيل ابن علية. من ترجمته: "ثقة حجة حافظ". قال عنه شعبة بن الحجاج: "ريحانة الفقهاء، ومرة: سيد المحدثين"، وقال عنه أبو دواد السجستاني (صاحب السنن): "ما أحد من المحدثين إلا قد أخطأ، إلا إسماعيل ابن علية، وبشر بن المفضل".

أخذوا حديث سليمان بن موسى، صاحب المناكير، وكذبوا ابن علية، الحجة الحافظ سيد المحدثين. راجع تحقيقات شعيب الارناؤوط في (مسند أحمد.. وسنن أبو داود).

من التعليق في مسند أحمد: "ونقل البيهقي في (السنن) ٧/١٠٥ عن أبي حاتم الرازي قوله: سمعت أحمد بن حنبل يقول - وذُكِرَ عنده ما حكاه ابن علية - إن ابن جريج له كتب مدونة، وليس هذا في كتبه، يعني حكاية ابن علية عن ابن جريج." -- أي ان اسماعيل بن علية يكذب، ولو ان ما قاله صحيح، لكتبه ابن جريج في كتبه المدونة.. اذا كانت هذه القاعدة معتمدة لدى احمد بن حنبل، فلماذا لا يكتفي بكتب ابن جريج المدونة بدلا من ان يبحث عن احاديثه عن طريق العنعنات وحدثنا واخبرنا؟ خُذْها من كتاب ابن جريج وارح نفسك.. وعلى هذه القاعدة يجب اعادة النظر في كل احاديث ابن جريج، واي شيئ منها ليس له اصل في كتبه المدونة يجب حذفه، وإلا كيف؟ القاعدة لك وعليك.

شعبة بن الحجاج، سفيان الثوري، واسماعيل بن علية، ثلاثة يعتبرونهم من أكبر رواة الحديث وأوثقهم، والمفروض ان يعتمدوا رواياتهم، ولكن ردوها وضربوا بها عرض الحائط، واعتمدوا روايات الضعفاء!! أين الالهام في هذا؟ هذا الشيئ اسمه أهواء ومزاج.

لو انهم اعتمدوا القران في الحكم على الاحاديث، لخالف القران أهوائهم في الكثير من المسائل، لذا استبعدوه وتركوه جانبا.. وان خالف الحديث، الذي يتفق مع اهوائهم، صريح القران، لردوا القران بالحديث، حتى وان كان الحديث في أسوأ درجات الضعف.. حديث لا وصية لوارث. حديث ضعيف متهالك ردوا به آية قرآنية وأبطلوا شرعيتها.

 

تلاعب الزنادقة بالحديث النبوي

الاقتباس التالي من كتاب: بحوث في تاريخ السنة المشرفة

وقد لعب الزنادقة منذ فترة مبكرة دورا في وضع الحديث محاولين انتقاص السنة وتشويه معالمها والوضع من مكانتها عند أرباب العقول، فكان الزنادقة يتسترون بالإسلام ويبطنون له ولأهله العداء فهم كما يقول ابن حبان "يعتقدون الكفر ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكانوا يدخلون المدن ويتشبهون بأهل العلم ويضعون الحديث على العلماء ويروون عنهم ليوقعوا الشك والريب في قلوبهم فعسى يضلون ويضلون، فيسمع الثقات منهم ما يروون ويؤدونها إلى من بعدهم حتى تداولوها بينهم".

وكان بعض الزنادقة يعترف بوضعه الحديث بإصرار وتحد، وبعضهم يعترف بذلك على أثر توبته وندمه، قال ابن لهيعة: "دخلت على شيخ وهو يبكي فقلت له ما يبكيك؟ قال: وضعت أربع مائة حديث أدخلتها في برنامج الناس فلا أدري كيف أصنع". وقال المهدي الخليفة العباسي: "أقر عندي رجل من الزنادقة أنه وضع أربع مائة حديث فهي تجول في أيدي الناس". وكان عبد الكريم بن أبي العوجاء يدس الأحاديث في كتاب جده لأمه حماد بن سلمة، وجييء به إلى محمد بن سليمان بن علي أمير البصرة ليقتله، فلما ايقن بالموت قال: والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل فيها الحرام، ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم. وكان حماد بن زيد يقول: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أربعة عشر ألف حديث.

أما الأحاديث التي وضعها الزنادقة فهي متنوعة الأغراض فمنها في العقائد والفقه والأخلاق.
(بحوث في تاريخ السنة المشرفة | الوضع في الحديث | الزنادقة)

الزنادقة في ذلك الزمن كانوا بمثابة الهكرز في الكمبيوتر في هذا الزمن، كانوا يدخلون على أهل الحديث خلسة، بطرق لا تخطر على البال، يُلفقون عليهم أحاديث ثم يخرجون بهدوء، لا من شاف ولا من درى.

من الاقتباس: قال ابن لهيعة: "دخلت على شيخ وهو يبكي" -- الزنديق متنكر على شكل شيخ دين. إن لم يكن قد اعترف هو بنفسه، فكيف لأهل الحديث ان يعرفوا انه زنديق؟ واذا افترضنا انه لم يعترف، فهل كانوا سيكتشفونه؟ كل الزنادقة المذكورين هم الذين اعترفوا بأنفسهم، ولو انهم واصلوا زندقتهم لما عرفهم أحد.

من الاقتباس: "فيسمع الثقات منهم ما يروون ويؤدونها إلى من بعدهم" -- الزنديق يذهب بأحاديثه الى المحدث المدلس، لأنه يعلم انه سيسقطه من الاسناد، ومن بين 100 حديث صحيح، يُدخل بينها حديث مُلفق.. رتبة الثقة هي اعلى رتبة في سند الحديث.. المحدث "الثقة" يأخذ حديثه عن زنيدق، فيسقط اسم الزنديق من الاسناد، لعدم شهرته مثلا، ثم يرفع الحديث فوقه طبقه. اسم الزنديق راح واختفى من الوجود، وان راجعت كتب الجرح والتعديل للاطلاع على احوال رجال الحديث ستجدهم كلهم ثقات، ولكن في الاسناد حلقات مفقودة لا تعلم عنها شيئ.

من الاقتباس: يقول حماد بن زيد ان الزنادقة وضعت 14 ألف حديث!! إذا كان زنديق واحد وضع 4000 حديث، فكيف يكون المجوع 14 ألف؟ لعله يقصد مجموع الارقام المعلنة في عصره.

من الاقتباس: عبدالكريم بن أبي العوجاء كان يدس الاحاديث في كتاب جده -- وضع عبدالكريم 4000 حديث في دين المسلمين، اكثر من احاديث صحيح البخاري بدون المكرر، الكثير منها، ان لم يكن كلها، لا تزال موجودة في كتب الحديث، من بين صحيح وضعيف.

اسم جده: حماد بن سلمة، وكان من كبار المحدثين.. من ترجمته: قال عنه ابن عدي الجُرجاني: "ويقع في حديثه أفراد وغرائب" -- من اين اتت هذه الغرائب؟ البركة في حفيده عبدالكريم.

حماد بن سلمة من رجال مسلم، وهو راوي الكثير من احاديث الصفات، من بينها حديث: "رأيت ربي في صورةِ شابٍ أمرد" -- الظاهر ان عبدالكريم لاعب في كتاب جده لعب.

قال ابن تيمية عن حديث الشاب الامرد انه "صحيح" (الدرر السنية) -- وفي كتاب تلبيس الجهمية قال ابن تيمية انها كانت رؤية عين! (تلبيس الجهمية، ج 7، ص 290).

حديث كشف الحجاب ورؤية الله رواه مسلم في صحيحه:

297- (181) حدثنا عبيدالله بن عمر بن ميسرة. قال: حدثني عبدالرحمن بن مهدي. حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
‏إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار. قال فيكشف الحجاب. فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. (مسلم)

كتب النووي في شرح الحديث: "قال أبو عيسى الترمذي وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: لم يروهِ هكذا مرفوعا عن ثابت غير حماد بن سلمة" (النووي - شرح الحديث).

هذا الحديث كان في الاصل مرسل، كحديث رضاع الكبير الذي رواه البخاري.. والظاهر ان عبدالكريم قام وأوصل الاسناد، ورفع الحديث الى النبي، ثم ادخل الحديث المعدّل في كتاب جده.

مُسلم اتى بعد حماد بن سلمه، ولابد انه عرف قصة تلاعب الحفيد بكتاب جده، فكيف بعد هذا يأخذ حديثه، وفي مسألة عقائدية مخالفة للقران، لا تدركه الابصار.

ثم يواصل النووي شرحه للحديث فيقول: "أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متصلا وبعضهم مرسلا أو بعضهم مرفوعا وبعضهم موقوفا حُكِمَ بالمتصل وبالمرفوع لأنهما زيادة ثقة وهي مقبولة عند الجماهير من كل الطوائف" (النووي - شرح الحديث).

قول النووي هذا فيه خلاف، فقد رأينا في المقال السابق ان النسائي وغيره يقدمون المُرسل على المتصل، والارسال جرح، والجرح مُقدم على التعديل، لذا فإن الحديث يأخذ حكم الضعيف، بحسب القاعدة التي اعتمدها النسائي.

حديث سحر النبي، وحديث رضاع الكبير، كانت في الاصلِ حكايات مُرسلة، فأتى المحترفون في تزوير الحديث وأوصلوها، فأخذت حكم الصحيح. وبعد ان تم وضع الاساس، أي حديث لاحق في نفس الموضوع يقبلونه، لأن الشاهد الصحيح اصبح موجودا.. الزنادقة يعرفون قواعد التحديث كلها، ويعرفون من اين تؤكل الكتف.

الكُتب أيام زمان لم تكن بين دفتين كما هي الان، وانما اوراق منفصلة عن بعضها، يمكن اضافة اوراق في داخل الكتاب بسهولة.. الاعداء كثيرون، والحفاظ على محتوى الكتاب من الاضافة والتغيير عملية صعبة.

في ترجمة المُحدث (أَنَس بن عياض بن ضمرة)، يقول عنه مالك: "لم أرَ عند المحدثين غير أنس بن عياض، ولكنه أحمق، يدفع كتبه إلى هؤلاء العراقيين" (تهذيب الكمال).

قول مالك هذا يُعطي الانطباع ان التلاعب بكتب المحدثين كان أمرا شائعا جدا، وبالذات عند العراقيين.

لم يكن حماد بن سلمة هو الوحيد الذي تم التلاعب بكتبه:

اقتباس من كتاب الموضوعات لابن الجوزي:
وقد يكون الاسناد كله ثقات ويكون الحديث موضوعا أو مقلوبا، أو قد جرى فيه تدليس، وهذا أصعب الأحوال ولا يعرف ذلك إلا النقاد، وذلك ينقسم إلى قسمين:

(أحدهما) أن يكون بعض الزنادقة أو بعض الكذابين قد دس ذلك الحديث في حديث بعض الثقات، فحدث به بسلامة صدره ظنا منه أنه من حديثه وقد ابتلى جماعة من السلف بمثل هذا.
قال ابن عدى: كان ابن أبي العوجا ربيب حماد بن سلمة فكان يدس في كتبه أحاديث.

وقال أبو حاتم بن حبان الحافظ: امتُحن جماعة من أهل المدينة بحبيب بن أبي حبيب الوراق، [الوراق هو الذي يعمل في صناعة الورق]، كان يُدخل عليهم [الحديث]. وكان لعبد الله بن ربيعة القدالى [الغداني] ابن سوء يدخل عليه الحديث. وكان لسفيان بن وكيع بن الجراح وراق يقال له فرطيه [قرطبة] يدخل عليه الحديث. وكان عبد الله بن صالح كاتب الليث صدوقا، لكن وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له، سمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار بينه وبينه عداوة، وكان يضع الحديث على شيخ عبد الله ابن صالح [شيخ عبدالله ابن صالح هو الليث بن سعد]، ويكتبه في قرطاس بخط يشبه خط عبد الله ويطرحه في داره في وسط كتبه فيجده عبد الله فيتوهم أنه خطه فيتحدث به، وهذا نوع من التغفل، وقد يزيد تغفيل المحدث فيلقن فيتلقن، ويرتفع التغفيل إلى مقام هو الغاية وهو أن يلقن المستحيل فيتلقنه.
(الموضوعات - ابن الجوزي | ج 1 | ص 99 - 100)

 

من الكلام الذي يقوله أهل الحديث في منتدياتهم ومواقعهم الالكترونية ان العلماء استخرجوا كل الاحاديث التي وضعها الزنادقة.. هكذا بكل بساطة.. حتى علماء الحديث انفسهم لم يزعموا شيئا من هذا.. ويستشهدون بقصة لأحد الزنادقة حكموا عليه بالاعدام في عهد هارون الرشيد.. قال الزنديق لهارون الرشيد، لقد وضعتُ في دينكم ألف حديث، فقال الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري و عبد الله بن المبارك، ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا. (كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص. 216).

من يسمع هذا الكلام يتوقع ان ابن المبارك والفزاري قاموا بتشكيل لجنة دارت على بيوت المحدثين بيت بيت لفحص كتبهم واستخراج ما فيها مما وضع الزنادقة.

بالنسبة للفزاري، كتب عنه ابن سعد: "وكان ثقة فاضلًا صاحب سُنّة وغزو، كثير الخطأ في حديثه." (موسوعة رواة الحديث - الطبقات الكبرى لابن سعد)

ها هو الفزاري بنفسه مخترق! جيتك يا عبدالمعين تعين، لقيتك يا عبدالمعين تنعان.

عليه أولا ان ينخل كتابه من الغرائب والمناكير، وبعدين ينخل كتاب غيره.

عبدالله بن المبارك ليس عليه كلام، ولكن ليس له في الحديث الا كتاب واحد صغير الحجم اسمه مُسند ابن المبارك، مجموع احاديثه 272 حديث فقط، الكثير منها ضعيف، بحسب محقق الكتاب صبحي السامرائي.

جمع الحديث كان مجهودا فرديا، البخاري مثلا ألف كتابه بمفرده وبمجهوده الشخصي، مسلم كذلك، وغيره فعل نفس الشيئ.. عملية استبعاد الضعيف من الصحيح عائدة لمؤلف الكتاب أولا وأخيرا، ولا أحد يتدخل في عمل الاخر.

علمائنا جمعوا احاديث الزنادقة كلها!! لا يا شيخ؟ على اساس انها مجلة نزلت السوق بالغلط، فبعث الوالي مندوب يسترجعها!

 

رضاع الكبير في صحيح مسلم

أخرج مسلم في صحيحه ستة احاديث في رضاع الكبير، الحديث الاخير منها تمت مناقشته في المقال السابق، وهو من رواية عقيل بن خالد الايلي عن ابن شهاب الزُهري، والان سنرى الخمسة الاولى.

هذه الاحاديث التي أخرجها مسلم لم تكن موجودة في زمن مالك، أو انها لم يصح منها شيئا عنده، وإلا كان قد أخرجها، لا نها تحتوي على مسألة فقهية، وهو فقيه، ومن أهل الاحاديث، فكيف يهملها؟

 

الحديث الاول:

2728 - حدثنا عمرو الناقد، وابن أبي عمر، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:
جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: أرضعيه، قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: قد علمت أنه رجل كبير،
زاد عمرو في حديثه: وكان قد شهد بدرا، وفي رواية ابن أبي عمر: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم. (صحيح مسلم)

هذا الحديث، وكما ترى اسناده، يرويه سفيان ابن عيينة عن عبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبو بكر الصديق عن ابيه (أي عن القاسم) عن عائشة.

نفس هذا الحديث رواه النسائي أيضا في السنن الكبري، وكتب ملاحظة: "خالفه سفيان الثوري فأرسل الحديث"، أي ان حديث الثوري ليس متصلا بعائشة.

4370 أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان [ابن عيينة] ، قال: سمعناه من عبد الرحمن (وهو ابن القاسم) ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت:
‏جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت : إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي ، قال : فأرضعيه ، قالت : وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فقال : ألست أعلم أنه رجل كبير؟ ثم جاءت بعد ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيا ما رأيت في وجه أبي حذيفة بعد شيئا أكره،
خالفه سفيان الثوري فأرسل الحديث:
أخبرنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان يعني الثوري ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لسهلة : أرضعيه ، قالت : إنه رجل. فسَاقَ الحديث.
(النسائي - السنن الكبرى)

الاسناد في الروايتين صحيح، ورجالهما في البخاري ومسلم، فكيف نختار، المرسل أو المتصل، أو نعمل قرعة؟

القول بالاحتكام الى صيغة السماع، في قول ابن عيينة "سمعناه من عبدالرحمن"، هذا الاحتكام مردود على صاحبه، وذلك انه ثبت على ابن عيينة التدليس بصيغة حدثنا، كما سبق ورأينا، وقال سمعناه من الزهري، وبعد ان حققوا معه قال أخبرني وائل.

الحديث التالي من مسند أحمد، يُروىَ ايضا عن عبدالرحمن بن القاسم عن ابيه، ولكن عن سهلة ‏امرأة‏ ‏أبو حذيفة بدلا من عائشة:

27005 - ‏حدثنا ‏ ‏يونس بن محمد، ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏حماد يعني ابن سلمة ‏، ‏عن ‏‏عبد الرحمن بن القاسم، ‏‏عن ‏القاسم بن محمد، ‏عن‏ ‏سهلة ‏امرأة‏ ‏أبي حذيفة‏ ‏أنها قالت:
قلت يا رسول الله إن ‏سالما ‏مولى ‏أبي حذيفة ‏‏يدخل علي وهو ذو لحية فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلّم: ‏ ‏أرضعيه فقالت كيف أرضعه وهو ذو لحية فأرضعته فكان يدخل عليها. (مسند أحمد)

الحديث يرويه يونس بن محمد المؤدب البغدادي، الرتبة: ثقة ثبت، وهو من رجال مسلم المعتمدين.. وطبعا حماد بن سلمة ايضا من رجال مسلم، وقد سبق الكلام عنه في الفصل عن الزنادقة، وهو المحدث الذي ابتلي بحفيد يدس له الاحاديث في كتابه.

الحديث الاول متصل بعائشة، والثاني مُرسل، والثالث متصل بسهلة بنت سهيل، فكيف الحل؟

يقول المحقق في مسند أحمد على هذا الحديث: "حديث صحيح على خطأ في إسناده، وقد بينا ذلك في الرواية السالفة برقم (24108)"

هو يفترض ان حماد ابن سلمة التبس عليه اسم سهلة امرأة ابو حذيفة بعائشة، وهذا الاحتمال غير منطقي.. اسم عائشة علم معروف، بينما سهلة امرأة مغمورة لا احد يعرفها في غير حديث الرضاعة هذا الملفق، فكيف يلتبس المشهور بالمبهم الذي لا يخطر على بال؟ وعلى اي حال فهو مجرد افتراض لا يقوم عليه دليل. أضف الى ذلك ان الحديث مُرسل في رواية الثوري.

الان لدينا احتمالين لا ثالث لهما:

الاحتمال الاول هو ان الحديث في الاصل مرسل، غير موصول بسهلة ولا عائشة ولا غيرها، فقام ابن عيينة وأوصله بعائشة، وله سوابق في ايصال المرسل. حديث حماد بن سلمة كان ايضا مُرسل، فقام حفيده عبدالكريم وعدّل في نص الحديث وأوصله بسهلة امراة ابو حذيفة، ثم دس الحديث المُعدّل في كتاب جده.

الاحتمال الثاني هو ان عبدالرحمن بن القاسم لم يسمع من ابيه شيئ، ولكن يسمع من الناس ينسبون الحديث لابيه، فبعضهم يقول الحديث مرسل، والبعض يوصله بعائشة، وآخرون يوصلونه بسهلة بنت سهيل.. وهو محتار، فمرة ينقل كلام هذا، ومرة ينقل كلام الثاني، ومرة ينقل كلام الثالث.

محال التوفيق بين هذه الاسانيد المتعارضة من غير إلغاء بعضها بشكل متعمد، والحكم الصحيح فيها هو هذا: تناقضت فتساقطت. وطبعا قاعدة الجرح مُقدم على التعديل لا تزال قائمة، والارسال جرح، وتسقط بموجبه الروايتين الاخرتين.

الامام مالك عاصر عبدالرحمن بن القاسم، وكانوا يسكنون المدينة المنورة، ويعرفه معرفة جيدة، وروى عنه في الموطأ أكثر من ثلاثين حديث، ليس بينها رضاع الكبير.. التفسير المنطقي هو ان مالك تبين له ان حديث عبدالرحمن في رضاع الكبير لا يصح سندا لأبيه، واكتفى بحديث الزهري، وهو حديث مُرسل، وبما ان الحديثين في نفس الدرجة، فما هي الفائدة من اضافة ضعيف على ضعيف؟ أما السبب في تدوين حديث الزهري واهمال حديث عبدالرحمن، فهو على ما يبدو انه كتب حديث الزهري أولا، ثم سمع حديث عبدالرحمن، ولم يجد فيه جديد، فأهمله.

افترض الان ان لديك قضية في محكمة، وكل ما عندك من أدلة هي مثل هذه الاحاديث المتناقضة، فهل سيعتمد القاضي أي شيئ منها؟ وعلى أي اساس يعتمدها؟

يقوم مسلم عادة بترتيب الاحاديث في الباب الواحد بحسب قوتها عنده، فيجعل اصحها أولا، ثم الذي يليه. وبناءا على هذا الرأي الذي يقوله أهل الحديث، فإن هذا الحديث هو أصح ما رواه مسلم في رضاع الكبير، وقد رأيت كيف هو متناقض في رواياته، ولكن مسلم أتى بالرواية التي تُرجح وجهة نظره فقط، فبدا الحديث وكأنه صحيح لا غبار عليه، والحقيقة غير ذلك تماما.

ربما سيفترض البعض ان الامام مسلم بدت له علة في الروايات الاخرى، ثم هو اختار منها الاصح على الاطلاق، وعلى علم لم يصل اليه احد غيره!! هذا افتراض خيالي في غيره محله:

توجد صحيفة عند اهل الحديث كتبها همام بن منبه عن ابوهريرة مباشرة، يسمونها صحيفة همام.

كل احاديث الصحيفة كتبها احمد بن حنبل في مسنده.

البخاري ومسلم كتبوا بعض احاديثها وتركوا بعضها.

اقتباس: "كما أن الشيخين لم يلتزما بإخراج جميع الأحاديث الصحيحة في صحيحيهما، وعلى هذا فلم يستوعبا جميع الأحاديث الصحيحة، ومن أوضح الأدلة على ذلك صحيفة همام بن منبه، فقد اتفق الشيخان على إخراج أحاديث منها، وانفرد البخاري منها بأحاديث، وانفرد مسلم منها بأحاديث..."
المكتبة الاسلامية - شرح سنن ابي داود للعباد (صفحة 18341)

نحن هنا لدينا صحيفة مكتوبة، فإذا كان ابوهريرة صادقا في حديثه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلّم)، وهمام صادق في نقله، فيجب على البخاري ومسلم ان ينقلوا احاديث الصحيفة كلها الى كتبهم. أليس الحديث دين؟ فكيف تأخذ جزء من الدين وتترك الباقي؟

شارح سنن ابو  داود استخدم صحيفة همام كمثال على عدم التزام الشيخين باخراج جميع الاحاديث الصحيحة، حتى لا يقال انهما وجدا علة خفية في الحديث. لا توجد علة. هذه صحيفة. كل احاديثها على نفس الدرجة من الصحة بالضبط.

التوجهات الفكرية والميول الشخصية والذوق والمزاج يلعبون دورا حاسما في اختيار الحديث. وطبعا كان بإمكان مسلم والبخاري ان لا يُخرجوا احاديث رضاع الكبير نهائيا. لا شيئ يلزمهم.. مثلما استبعدوا احاديث من صحيفة همام بدون سبب، كان بإمكانهم ان يستبعدوا اي حديث آخر، ومن غير سبب.

 

الحديث الثاني:

2729 وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، ومحمد بن أبي عمر، جميعا عن الثقفي، قال: ابن أبي عمر، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة:
أن سالما، مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت - تعني ابنة سهيل - النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال. وعقل ما عقلوا. وإنه يدخل علينا. وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة فرجعت فقالت: إني قد أرضعته. فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. (صحيح مسلم)

أبو حذيفة كان مستاءا من دخول سالم عليهم في البيت، وبعد ان رأى زوجته ترضع سالم، ذهب الذي في نفس أبو حذيفة، ارتاحت نفسه بعد ان رأى رجلا غريبا ذو لحية يمص ثدي زوجته!! حدّث العاقل بما لا يُعقل، فإن صدّق فلا عقل له.

الحديث يرويه أيوب السختياني عن ابن أبي مُلكية، وأيوب مُدلس، لذا فإن سماعه من ابن أبي مُلكية محتمل وليس مؤكد.

[ 5 ] ع أيوب بن أبي تميمة السختياني أحد الأئمة، متفق على الاحتجاج به، رأى أنسا ولم يسمع منه، فحدث عنه بعدة أحاديث بالعنعنة أخرجها عنه الدارقطني والحاكم في كتابهما -- (طبقات المدلسين)

حدّث ايوب السختياني عن انس بن مالك بالعنعنة، لم يسمع منه، أسقط وسيط.. ولما لا يكون قد اسقط وسيط في حديثه هذا عن ابن ابي مليكة؟

ثم يرويه عبد الوهاب الثقفي عن أيوب.

يقول عبد الرحمن بن مهدي: عبد الوهاب الثقفي، وجرير بن عبد الحميد، ومعتمر بن سليمان، وعبد الأعلى السامي: أمرهم في الحديث واحد، يحدثون من كتب الناس ولا يحفظون ذلك الحفظ.
(موسوعة الحديث - ترجمة عبدالوهاب الثقفي)

يحدثون من كتب الناس!! ويحصل هذا في الوقت الذي كان فيه الزنادقة يتحينون الفرصة للدس في كتب المُحدثين.

عبد الوهاب الثقفي من أهل البصرة، من العراق، وقال مالك وهو ينتقد أنس بن عياض: "لم أرَ عند المحدثين غير أنس بن عياض، ولكنه أحمق، يدفع كتبه إلى هؤلاء العراقيين" (تهذيب الكمال).

بالرغم من ان ايوب السختياني مدلس، إلا ان هذا الحديث لا يبدو انه حديثه، ولكن نسبه اليه عبدالوهاب الثقفي، فالحديث لم يروه عن ايوب، على الاقل في الكتب المشهورة، الا عبدالوهاب الثقفي.

كتب الذهبي في سير اعلام النبلاء: "ومن أفراد عبد الوهاب حديثه عن جعفر الصادق ، عن أبيه ، عن جابر مرفوعا : قضى باليمين والشاهد، رواه مالك والقطان والناس عن جعفر عن أبيه مرسلا." (ترجمة عبدالوهاب الثقفي)

خالف عبدالوهاب بقية الرواة عن جعفر الصادق وروى حديث "قضى باليمين والشاهد" مرفوعا للنبي، أي انه ادخل جابر في سند الحديث.. حديث عبد الوهاب رواه أحمد في مسنده.

مؤلف كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري رد حديث عبدالوهاب، "قضى باليمين والشاهد"، واستشهد عليه بما كتب ابن مهدي: "يحدثون من كتب الناس ولا يحفظون ذلك الحفظ"... نذكر هذه الملاحظة لترى انها ليست مسألة بسيطة أن تأخذ كتب الناس وتحدث منها.

حديث رضاع الكبير هذا منسوب الى القاسم، ابو عبدالرحمن بن القاسم، ولو كان عند القاسم حديث عن عائشة في هذا الشأن لأخبر به ابنه، ولما تلخبط ابنه، أو من روى عنه، في الحديث بين الارسال والوصل، موصولا بعائشة مرة، ومرة أخرى بامرأة أبو حذيفة.

 

الحديث الثالث:

2730 وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن رافع ، - واللفظ لابن رافع - ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جُريج، أخبرنا ابن أبي مُليكة، أن القاسم بن محمد بن أبي بكر، أخبره أن عائشة أخبرته:
أن سهلة بنت سهيل بن عمرو جاءت النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن سالما - لسالم مولى أبي حذيفة - معنا في بيتنا. وقد بلغ ما يبلغ الرجال، وعلم ما يعلم الرجال . قال: أرضعيه تحرمي عليه قال: فمكثت سنة أو قريبا منها لا أحدث به وهبته ثم لقيت القاسم فقلت له: لقد حدثتني حديثا ما حدثته بعد. قال: فما هو؟ فأخبرته قال فحدثه عني، أن عائشة أخبرتنيه. (صحيح مسلم)

الحديث هذا ايضا منسوب الى القاسم، وبناءا على ما سبق نجد انه ضعيفا مقدما، ولكن البحث في شأنه سيفيدنا في معرفة موقع المشكلة.

الحديث من رواية ابن جُريج، وما ادراك من ابن جُريج، قال مالك: كان ابن جريج حاطب ليل، أي انه يأخذ حديثه من أي أحد دون تحري.

يقول في الحديث "أخبرنا" ابن أبي مُليكة، ولكن هل هذا الاخبار حقيقي، أو انه قراءة من صحيفة مجهولة المصدر؟

ابن جريج يروى احاديث من كتاب لشخص "ميت" ويقول فيها "اخبرنا"

[758] عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
. . .
قال أبو بكر ورأيت في كتاب علي بن المديني، سألت يحيى بن سعيد عن حديث بن جريج عن عطاء الخراساني، فقال ضعيف، قلت ليحيى أنه يقول أخبرني، قال لا شيء، كله ضعيف، إنما هو كتاب دفعه إليه [عثمان].
(تهذهيب التهذيب | ج 6)

القصة وما فيها ان ابن جريج لم يسمع من عطاء الخراساني، وبعد موت الخراساني، اتى ابنه عثمان الى ابن جريج واعطاه كتاب زعم انه كتاب اباه. عثمان بن عطاء الخرساني ضعيف جدا، فحكم يحيى بن سعيد القطان على كل ما في الكتاب بالضعف.. ثم حدثت لخطبة، ابن جُريج يقول أخبرني عطاء الخرساني، ومن كُثرِ ما كان يُكرر الاسم، قام تلاميذه واختصروه باسم "عطاء" فقط ، بدون الخرساني. اتى الجيل اللاحق فاحتار في الشخص المقصود، أهو عطاء الخراساني، أم انه عطاء بن أبي رباح؟!

حديثين في التفسير اخرجهما البخاري من رواية ابن جريج عن عطاء (أهو الخراساني، أو انه ابن ابي رباح؟)، قال عنهما ابو مسعود الدمشقي ان البخاري "وهم" فيهما ظنا منه انه عطاء بن أبي رباح:

[395] عطاء بن أبي مسلم الخراساني
. . .
"وقال أبو مسعود [الدمشقي] في الأطراف عقب الحديثين المتقدمين، هذان الحديثان ثبتا من تفسير بن جريج عن عطاء الخراساني، قال [أن] بن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني، إنما أخذ الكتاب من أبيه [من ابنه] ونظر فيه.

قلت (أي ابن حجر): أورد المؤلف من سياق هذا أن عطاء المذكور في الحديثين هو الخراساني وأن الوهم تم على البخاري في تخريجهما لأن عطاء الخراساني لم يسمع من بن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني، فيكون الحديثان منقطعين في موضعين والبخاري أخرجهما لظنه أنه بن أبي رباح، وليس ذلك بقاطع في أن البخاري أخرج لعطاء الخراساني بل هو أمر مظنون، ثم أنه ما المانع أن يكون بن جريج سمع هذين الحديثين من عطاء بن أبي رباح خاصة في موضع آخر غير التفسير دون ما عداهما من التفسير، فإن ثبوتهما في تفسير عطاء الخرساني لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضا، هذا أمر واضح بل هو المتعين ولا ينبغي الحكم على البخاري بالوهم بمجرد هذا الاحتمال" (تهذيب التهذيب | ج 7)

ابن حجر دائما يستميت في الدفاع عن البخاري، وفي هذين الحديثين لم يجد ما يقول سوى ما المانع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضا.

أبومسعود حكم على البخاري بالوهم بعد ان وجد الحديثين في تفسير ابن جريج من الرواية المنسوبة للخراساني، وهذا دليل، فما هو دليل ابن حجر غير "الاحتمال" فقط؟ اذا كانت الاحكام بالاحتمالات، فسوف آتي بأي حديث ضعيف وأقول ما المانع انه كان يوجد حديث صحيح مثله ثم ضاع؟ هل هذا كلام؟

في كتاب "الرسائل المتبادلة بين الشيخ ابن باز والعلماء"، ص. 191، ارسل الشيخ المعلمي الى الشيخ ابن باز مذكرة توضيح حول رواية ابن جريج عن عطاء، نسخة من الرسالة على الرابط التالي:

مذاكرة من الشيخ المعلمي حول رواية ابن جريج عن عطاء

ابن جريج يروي من صحيفة عن شخص ميت، لم يسمع منه قط، ولا كلمة واحدة، ثم يقول في حديثه "اخبرنا" -- كيف نعلم حقيقة إخبار المدلس؟ الحالة قيد النقاش تم اكتشافها، ومع ذلك حصل فيها الوهم والخطأ، ومن البخاري شخصيا، إمام المحدثين، ولكن من سابع المستحيلات الالمام بكل الحالات، وتحديد الإخبار الحقيقي، من قراءة من صحيفة مصدرها ضعيف او مجهول.

"758 ... وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقا، فإذا قال حدثني فهو سماع، وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال قال فهو شبه الريح." (تهذيب التهذيب، ج 6)

"4636 ... وكان بن جُريج يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة" (فتح الباري | ج 8).

بناءا على ما قيل في الاقتباس اعلاه نجد ان ابن جريج يمكن ان يقول اخبرنا حتى وان كان يقرأ من كتاب، أخذه مناولة أو استلمه مكاتبة (مرسال، بريد)، وليس بالضرورة انه سمع الحديث بنفسه من المُحدّث المصدر.

ابن جريج حاطب ليل، على رأي مالك، والظاهر ان احد الزنادقة قام ولفق كتيب احاديث منسوبة الى ابن أبي مُليكة، ثم دسه على ابن جُريج بطريقة ما. ابن جريج اسقط الوسيط، ثم حدّث بالاحاديث عن ابن أبي مليكة مباشرة، مثلما أسقط الوسيط في الكتاب المنسوب للخرساني، ثم حدّث عنه مباشرة، وكأنه سمعه بنفسه، وهو لم يسمع منه شيئ.. هذا الاحتمال واردٌ جدا، واذا وُجد الاحتمال، بطل الاستدلال. وهل تؤخذ الشريعة بالاحتمالات، يمكن وربما؟ إمّا صح أو غلط، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

 

الحديث الرابع:

2731 وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة قالت:
قالت أم سلمة ، لعائشة ، إنه يدخل عليك الغلام الأيفع ، الذي ما أحب أن يدخل علي ، قال : فقالت عائشة : أما لك في رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) أسوة ؟ قالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله ، إن سالما يدخل علي وهو رجل ، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : أرضعيه حتى يدخل عليك. (صحيح مسلم)

هذا الحديث اتى من طريق محمد بن جعفر، واشتهر بإسم غندر، يرويه عن شعبة بن الحجاج.. شعبة محدث كبير ولديه أكثر من ألف تلميذ، ولم يروي هذا الحديث عنه سوى غندر فقط.

ابن الجعد نقل نفس هذا الحديث من مسند أحمد الى كتابه، وكتب ملاحظة، "لا أعلم رواه إلا غندر":

وروى شعبة، عن حميد بن نافع، حديثا، لا أعلم رواه إلا غندر، رأيته في كتاب أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وحدثني به عبد الله بن أحمد، نا أبي، نا محمد بن جعفر، نا شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت،
قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، قالت عائشة: أما لك في رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) أسوة؟ قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علي، وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): «أرضعيه حتى يدخل عليك»
(مسند ابن الجعد | زينب بنت أبي سلمة)

كما ترى في الاقتباس اعلاه، غندر تفرد بهذا الحديث عن شعبة، ولم يروه احدٌ من تلاميذ شعبة غير غندر فقط.

من الاوهام التي يسوقها اهل الحديث ان البخاري ومسلم لا يُخرجوا حديث الا وله طريقين على الاقل، حتى وان لم يذكروه، فانه كان معلوما لديهم.. يزعمون للصحيحين مزاعم لم يزعمها اصحاب الصحيحين لأنفسهم! علي ابن الجعد صّنف مُسنده قبل مسلم والبخاري، ولو كان للحديث طريقا عن شعبة، في الزمن الذي عاش فيه ابن الجعد، غير طريق غندر، لعلم به، فإذا قال انه لا يعلم للحديث راوٍ آخر عن شعبة سوى غندر، فهو كما قال، والبينة على من يدعي ان له طريقا آخر عن شعبة.

من ترجمة محمد بن جعفر (غندر)، يبدو ان الرجل كان صاحب اوهام، وساذج، ومسكين على نياته:

وقيل: كان غندر يتجر في الطيالسة وفي الكرابيس وكان من خيار أصحاب الحديث ومجوديهم. وقيل: كان مغفلا.. فاشترى سمكا، وقال لأهله: أصلحوه، ونام، فأكل عياله السمك، ولطخوا يده، فلما انتبه قال: هاتوا السمك. قالوا: قد أكلت. فقال: لا. قالوا: فشم يدك. ففعل، ثم قال: صدقتم، ولكن ما شبعت.
(سير أعلام النبلاء | الطبقة التاسعة | غندر)

اذا اتى المحدث الحافظ المتقن بحديث غريب، يُرد حديثه، فكيف اذا اتى به شخص ساذج مُغفل يعمل فيه الاطفال مقالب؟

فربما دُس الحديث في كتابه، أو تم إيهامه انه حديثه. وعلى أي حال فإن الحديث المتفرد مرفوض، وقال احمد بن حنبل، كما رأينا في المقال السابق، الحديث المتفرد خطأ، حتى وإن كان قد رواه سفيان وشعبه.

"( إنه يدخل عليك الغلام الأيفع) هو بالياء، وبالفاء، وهو الذي قارب البلوغ ولم يبلغ، وجمعه أيفاع، وقد أيفع ويفع، وهو يافع.
وكانت عائشة -رضي الله عنها- ترى أن إرضاع الكبير يحرمه، وأرضعت غلاماً فعلاً، وكان يدخل عليها، وأنكر بقية أمهات المؤمنين ذلك، كما يظهر من الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة."
(فـــتح المــــنعم شرح صحيح مسلم)

استنتج بعض علماء الدين من الحديث قيد النقاش، احدهم شارح صحيح مسلم، ان عائشة ارضعت غلاما.. عائشة لم تنجب، فمن اين اتت بالحليب؟ ابحث عن سيناريو خيالي وعديها.. وهل كان في سهلة بنت سهيل حليب في الوقت الذي ارضعت فيه سالم؟ كله تخريف محصل بعضه.

يقول ابن القيم:

"أن عائشة رضي الله عنها ابتليت بالمسألة، وكانت تعمل بها، وتناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتها فلها بها مزيد اعتناء، فكيف يكون هذا حكما منسوخا قد بطل كونه من الدين جملة، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساء النبي صلى الله عليه وسلّم فلا تذكره لها واحدة منهن."
(زاد المعاد لابن القيم - ج 5، ص 521 - الشاملة، طبعة الرسالة)

كلام ابن القيم يصور عائشة بأنها كانت مهتمة اهتمام شديد بمسألة رضاع الكبير، وتناظر عليها، وتروج لها.. اذا كان هذا فعلا ما كان يحدث، فلابد ان يكون الخبر متواتر من ايام الصحابة، ولكن، ويا للعجب، نجد الزُهْري، في الحديث المنقطع الذي رواه مالك، انه يُسئلُ في حكم رضاع الكبير!

 

الحديث الخامس:

2732 وحدثني أبو الطاهر ، وهارون بن سعيد الأيلي ، - واللفظ لهارون - ، قالا : حدثنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، قال : سمعت حميد بن نافع ، يقول : سمعت زينب بنت أبي سلمة ، تقول:
سمعت أم سلمة ، زوج النبي (صلى الله عليه وسلّم)، تقول لعائشة: والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة ، فقالت : لم ، قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلّم)، فقالت : يا رسول الله ، والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ، قالت : فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): أرضعيه ، فقالت : إنه ذو لحية فقال: أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة، فقالت: والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة. (صحيح مسلم)

الحديث يرويه مخرمة بن بكير عن أبيه -- قال عنه ابن حبان البستي: "يُحتج بحديثه من غير روايته عن أبيه".

تُوفيَ ابا مخرمة وهو طفل صغير، واختلفوا في سماعه من ابيه، فمنهم من قال انه سمع منه قليلا، وقال آخرون لم يسمع منه شيئ.. مصدره كتاب تركه اباه، أو هكذا يقال.

قال ابن حجر: "صدوق، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني سمع من أبيه قليلا" -- الوجادة مشتقة من وَجَدَ، فربما وجد كُتب في البيت او في مسجد تُنسب الى ابيه، فأخذها وحدّث منها.

وقال موسى بن سلمة: "قلت لمخرمة بن بكير: سمعت من أبيك؟ قال: لم أدركُ أبي، وهذه كتبه." (طبقات المدلسين)

يحيى بن معين ضعّفَ حديث ابن بكير كله:

"ضعيف الحديث، ومرة: ليس حديثه بشيء، يقولون أن حديثه عن أبيه كتاب، ومرة: ضعيف حديثه ليس بشيء، وفي رواية ابن محرز، قال: لا يكتب حديثه." (معلومات عن الرواي - مخرمة بن بكير)

 

الخــــــــــاتمة

ها هي احاديث رضاع الكبير على حقيقتها، لا يوجد فيها حديثٍ واحد يخلو من العلة، ولا تخدعك كثرتها، شغل زنادقة.. الهدف من تكثير الاحاديث في نفس الموضوع هو إيهام الناس بأن الامر حقيقي، بناءا على المبدأ المعروف منذ الازل: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.

بهذا المقال والمقال السابق نكون قد انتهينا من اظهار العلل في احاديث رضاع الكبير في صحيح البخاري وصحيح مسلم وتبيان زيفها، وان الاصل فيها اشاعة، وهي التي ذكرها مالك في الحديث الذي رواه عن الزهري مرسلا.

قائمة المقالات: تنقية السنة النبوية من الشوائب
المقال السابق: رضاع الكبير في صحيح البخاري
المقال الحالي: رضاع الكبير في صحيح مسلم
المقال التالي: حديث السحر

End of Body

Script:DoPrintDlg